لماذا أحبّ الباستا
لهذا السّبب لا يقتصر عشقي للباستا على مذاقها الجنونيّ الشهيّ وحسب
السيّدة الظّاهرة بالصّورة أعلاه هي أنا خلال أحد فصول الصّيف الحارّة في روما، منغمسة كليّاً بتناول طبقي من الباستا لدرجة أنّني لم أدرك أنّ زوجي كان يلتقط صورة لي حينها. لا يعني ذلك أنّني كنت سأتوقّف عن الأكل لو عرفت بالأمر فعليّاً. فحبي للباستا يمتدّ لما هو أعمق من فكرة أن أبدو جميلة المظهر في الصّورة أو من الانتباه لما يقوله لي زوجي. لكنّه يعرفني جيّداً لذا فهو لا يتحدّث معي أثناء تناولي للبوكاتيني أماتريتشانا —أكثر طبق مفضّل بالنّسبة لي— مع الصّلصة الحمراء الحلوة، والبانشيتا المقرمشة، وجبنة البارميزان. لذا فهو يقوم بدلاً من ذلك بمشاهدتي متورّدة وأنا أستمتع بالقضمة بعد الأُخرى لأنّه يعرف أنّني أكون بأسعد حالاتي عندما أكون في حضور وعاء من معكرونة الدينتي. لذا فعندما أمرض، أو أشعر بالتوتّر، أو عندما يريد الاحتفال بعيد ميلادي، أو بوظيفةٍ جديدةٍ، أو بيوم موفّق لي، يحرص على أن تكون الباستا جزءاً من ذلك في الحقيقة.
لا أتذكّر المرّة الأولى التي تناولت فيها الباستا. أخبرتني والدتي أنّ ذلك حدث عندما كنت في السّنة الأولى من عمري، وحين كان ذوقي بالطّعام صعب الإرضاء وكنت أعاني من مجموعة من اضطّرابات الحساسية الشديدة ولم يكن بمقدوري تناول معظم أنواع الطّعام. لكن كانت عيناي تشعّان عند رؤيتي لطبق الباستا مع صلصة اللّحم (رغم أنّني كنتُ أكره الطّماطم)، والتي كانت تحضّرها مع قطع الجزر المخفيّة لتوفير تغذية إضافيّة. كنتُ أطلب المزيد والمزيد، وكانت هي تقدّم لي صحناً بعد الآخر من باستا النودلز الشعيريّة لكن دون جبن بداخلها (لأنّني كنتُ أكره ذلك أيضاً)، وكان يراودها الشّعور بالارتياح لأنّ صغيرتها تتناول طعاماً تحبّه. وبعد ذلك، عندما أصبح عمري 7 أو 8 أعوام، بدأتُ أخيراً بأكل عدد كبير جدّاً من الأطباق، فيما كانت هي تجلس بجانب سريري طوال اللّيل وأنا مريضة، شاهدةً على كرهي --الذي استمر لمدّة سنوات-- لصلصة الطّماطم. لكن... كان هناك دائماً البيستو، والألفريدو، والمزيد من البيستو.
لقد نشأت في ليما، بالبيرو، إلا أنّني كنت أتمنّى لو كنت إيطاليّة الأصل. مع ذلك، لديّ اسم إيطاليّ، بفضل حبّ والدي لكرة القدم وأليساندرو كوستاكورتا. كنّا نأكل اللّازانيا عندما يكون هنالك مناسبة نريد الاحتفال بها. وكان لدينا دائماً باستا في خزانة المؤن بالمنزل. لذا، بدأت أدعو نفسي إيطاليّة مزيّفة، بشكلٍ علنيٍّ ودون خجل، تماماً كما أفعل الآن حيث أظهِر قليلاً من لغة البلاد لمساعدة السيّاح في مترو أنفاق نيويورك، وأضفي على كلامي لكنة سكّان ميلانو من صديقتي ميشيل، المهووسة بشطائر البوريتو مثلما أنا مهووسة بالباستا.
لذا أقوم سنويّاً، بكلّ فخر، بزيارة بلدي المفضّل ذاك، وأدعوه موطني، وعندما يحين وقت ركوب الطّائرة للعودة إلى الولايات المتّحدة أبدأ بالتّعبير عن امتعاضي، وعادة ما أكون مرتدية حينها سروالاً رياضيّاً فضفاضاً لأنّني لا أتمكّن من إغلاق سحّاب البناطيل بعد ولائمي اليوميّة هناك. إنّني أتحدّث عن التقاعد في مدينة بالاتزو سولوغليو Palazzolo sull'Oglio، حيث توجد المطاعم الجيّدة صغيرة المساحة التي تعود ملكيّتها للعائلات، والتي يطلقون عليّ فيها صفة "الأمريكيّة". توأمي الروحيّ هناك هو رجل لم تتزوّج عائلته أبداً من غير الإيطاليين وبدأت تمتلك المطعم بعد الآخر وتوقّفت عن ذلك قبل بضع سنوات فقط، بينما نشأ هو في المطبخ على تحضير معكرونة الصدف المحشوة عندما كان ما يزال طفلاً صغيراً أشقراً. وباعتبار أنّني إيطاليّة مزيّفة، فأنا أتناول وجبات الباستا قدر استطاعتي – التورتيليني بالجبن والبيستو، والسباغيتي بالثّوم وزيت الزيتون، وصلصة الطماطم فوق الريغاتوني، والكاتشو أ بيبي. هذا فقط في أسبوع واحد. (لكنّني أتمرّن كثيراً، يستحقّ الأمر ذكر ذلك).
في الحقيقة، أنا سيّدة صعبة الإرضاء من ناحية قوام باستا النودلز (فأنا لا أسمّيها "معكرونة" أبداً). كما أهتمّ كثيراً بنسبة الصلصة فيها، ولديّ خيارات محدّدة حسب الطّبق. كما أعرف شكل الباستا الأفضل ليتماشى مع كلّ صلصة بالطّريقة المثاليّة. وأعلم أنّني لا أستطيع الوصول إلى معاييري الصّارمة.
زوجي، كقدّيسٍ إيطاليٍّ، يعرف هذا أيضاً. لذا فهو يحضّر أكياساً كبيرة من صلصة الطّماطم، والبيستو، ويجمّدها ليوفّر لي خياراتي المفضّلة عندما أتناول العشاء بمفردي. قبل أن يفعل ذلك من أجلي، كانت تفعله جدّته، الجدة جوزفين، فتتّصل بي من المطعم لتسأل "ما نوع الباستا التي تريدينها اليوم، يا قردة؟" وفي كلّ مرّة كانت تفعل ذلك وفي كلّ مرة يسألني فيها زوجي الشيء ذاته، أشعر بالامتنان والسّعادة التامة.
يمكنكم وصفي بالمبتذلة إن شئتم، لكنّ الباستا بالنّسبة لي تعني الأسرة. تعني الرّاحة والشّعور بتلقّي العناية، فهي تذكّرني باللّيالي الرّائعة التي قضيتها مع أمي الإيطالية المزيّفة وأبي (الذي لا يُحضّر سوى صلصة ألفريدو من الظّروف)، والأهم من ذلك كله مع عائلتي الإيطاليّة الحقيقية التي تحبّني كفرد منها، وتتركني أتناول النودلز بيديّ بينما يقومون هم بإعداد وجبات عملاقة في أيّام المناسبات، ويتفهّمون السبب في كوني لا أستطيع الانتظار حتى نجلس لتناولها.
ماذا إذاً لو أردتُ أن أعيش هذا الشعور أكثر من مرّة في الأسبوع؟ فكما قال فيديريكو فليني ذات مرّة: "الحياة مزيج من السّحر والباستا". بالتّأكيد، يا فيديريكو. بالتّأكيد هي كذلك!